ليس خطأ أحد سواك - تغلب على عدوك الثاني
الفهرس:
مقدمة
الألعاب الجماعية
اللغة الفرنسية
التاجر ومساعده
الأمريكي جون
العدو الثاني
خاتمة
مقدمة
دائما ما نخوض في حديث مع جماعة من الناس، سواء أصدقاء أو أقاربا أو أشخاصا التقيتهم للتو، خلال قصهم لحدث عاشوه غالبا ما يُلاحظ بأنهم يلقون اللوم على أحد ما أو ينسبون إليه خطأ ما.
أشخاصا كانوا أم جمادا، فالذنب ذنب الآخرين وليس ذنبهم. مهما اختلفت المواقف، الخطأ ليس خطأهم! "الأستاذ طردني، يا له من وغد!". "سحقا! لقد انكسرت!".
يمكن تمييز هؤلاء بسهولة عند التحدث عن المشاكل. يقومون بخلق أعذار مهما كانت الظروف، أعذارا تبرئهم…
"رسبت لأن الدروس كانت عديدة وصعبة…"، مع العلم أنه كان يلهو طوال السنة. "الوقت ضيق"، مع العلم أنه كان يضيع كل أوقاته الفارغة في شتى التفاهات. "لم أقم بهذا لأن الأمر مستحيل…" مع العلم أنه لم يحاول قط! ولو مرة واحدة!
الألعاب الجماعية
يلاحظ هذا الأمر أيضا في الألعاب الجماعية، مثلا كرة القدم بين أصدقاء الحي، فعند خسارة طرف من الطرفين، البعض يلقي اللوم على بعض. إذا تأملنا في هذا الموقف: لا أحد يريد أن يتحمل مسؤولية الخطأ أو أن يُنسب إليه، وبالتالي يلقيه على الآخر. والآخر يقوم بنفس الفعل…
أحدث موقف تعرضت إليه كان في البارحة، كنت شرعت في لعب لعبة الفيديو المفضلة لدي، بعد أن أنهيت الدراسة. اللعبة لعبة جماعية حيث أن الفرقة التي تفوز بأكبر عدد من الأشواط تربح المباراة.
قمت باختيار شخصية يظن الأغلبية أنها ضعيفة عمدا، كانت لدي خطة، لم يعارضني أحد من اللاعبين على الإطلاق.
وعند بداية المباراة خسرنا شوطين متتابعين خسارة ساحقة، علما أن في المباراة الواحدة هنالك سبعة أشواط، ارتبكت الفرقة بأكملها و… "لماذا اخترت موجي أيها الأخرق! من يختار موجي في مباراة جدية كهذه! (الفرقة الخاسرة تخسر نقاطا ذات قيمة في اللعبة)" وبعدها بقليل… لاعب آخر: "شكرا على الهزيمة يا موجي (يعنيني أنا) …".
تمتلك شخصيتي بطاقة، إذا أحسنت استعمالها، تعطيك ميزة استراتيجية ستمكنك من الفوز بغض النظر عن ضعفها، خصوصا في الجزيرة التي كنا نخوض فيها المعركة.
كنت واثقا بأن الخطة ستنجح لأنني لعبت هذه اللعبة لأكثر من 2500 ساعة، أعرف ما أقوم به. كنت أنتظر فقط جمع المبلغ الكافي لشراء تلك البطاقة، يمكنك الحصول عليها بعد حوالي شوطين أو ثلاثة من بداية المباراة.
بعد شرائي لها عوضنا الخسارة وفزنا بسهولة. وعند نهاية المباراة كتبت في الدردشة: لا شكر على واجب "على الخسارة". فردوا عليّ بالاعتذار وبأنهم كانوا على خطأ…
فزنا لأنني لم أكترث لقولهم وركزت على تنفيذ خطتي. لو كنت أنتمي لفئة هؤلاء لحاولت إلقاء اللوم عليهم كما ألقوه عليّ ولخسرنا، لأنه عوض اللعب ومحاولة الفوز لأمضينا الوقت كله في اللوم والسب والشتم.
لا يهم من المخطئ، المهم هو المباراة. ماذا يمكننا أن نحسن؟ ما نقاط ضعف الخصم؟ كيف يمكننا استعمالها لصالحنا؟ لو كان أعضاء الفرقة يفكرون بهذا الشكل لفازت هذه الأخيرة بالعديد من المباريات التي هُزمت بها.
لم أكترث لقولهم لأنني كنت أعلم بأن هؤلاء… سأخبركم عما قليل.
اللغة الفرنسية
في السنة الثالثة إعدادي، حصلت على أول معدل في مادة اللغة الفرنسية في المستوى بأكمله، وبعد انتشار الخبر أصبح الجميع يتحاور معي ومنهم الفئة التي تهم موضوعنا.
تلميذ: أنت من حصل على أول معدل؟! مذهل! كيف قمت بذلك؟
قمت بالرد مبتسما: نعم، كانت تعجبني اللغة الفرنسية منذ الابتدائي، لذلك اجتهدت في دراستها!
تلميذ: أين درست؟
أنا: في مدرسة ابن رشد الخاصة
تلميذ: هكذا الأمر إذن، واثق أنه كان لديك أساتذة مؤهلين! أساتذتنا كانوا يتغيبون و...و...و...
وظل في إعطاء أسباب وأعذار مغزاها أن كونه ليس جيدا في اللغة الفرنسية ليس خطأه.
يتحدثون عني كما لو أنني كنت محظوظا للغاية، كان لدي أساتذة بارعون وهم لا، وكان… وهم لا… و...، كما لو أن أمي اشترت إبريق جني علاء الدين ظنا أنه ابريق شاي عادي و استعملته للحصول على قدرة "إتقان اللغة الفرنسية".
كنت قد التقيت فيما بعد بأصدقاء لّي، كانوا قد درسوا معي في الصف الابتدائي بأكمله، درسوا معي مجددا في السنوات الموالية. مدينتنا صغيرة. خمن ماذا؟، جميعهم ضعفاء في اللغة الفرنسية. ومنهم من يكرهها!
درسوا معي في نفس الصف، في نفس القسم، مع نفس الأساتذة "المؤهلين"، كانوا يجلسون بجانبي، ومع ذلك لم يكونوا "مذهلين" في اللغة الفرنسية.
كان هذا فقط نموذجا لأحد حواراتي مع أشخاص ينتمون لتلك الفئة. بعضهم ألقى اللوم على اللغة كونها صعبة وأن اللغة الانجليزية أفضل وأحسن وأن هذه الاخيرة هي لغة العلم و الفرنسية لغة الجهل و... و... و... . أنا لا أخالفهم الرأي أو ما شابه، ولكن المشكلة هي أن مستواهم في اللغة الانجليزية كان أضعف من مستواهم في اللغة الفرنسية! كيف أعلم هذا؟، أغلبهم كانوا زملاء صفي، درست معهم طوال السنة، درست معهم منذ السنة الأولى إعدادي!
من الممكن أن الصعوبة التي واجهتها من أجل تعلم اللغة الفرنسية أكبر من الصعوبات التي مروا بها في حياتهم إلى حين ذلك الوقت.
ما أحاول قوله هو أن كلامهم ذاك دون معنى! ومع ذلك لا يمكننا لومهم، لأننا عندها سنكون من نفس الفئة، أليس كذلك؟ هناك عدو لدود مسؤول عن كل هذا سنتعرف عنه قريبا.
التاجر ومساعده
في أحد الأيام وجدت سماعات حاسوبي غير شغالة بعدما استيقظت -سماعات غالية الثمن-. لم أدري ما كان سبب ذلك. كنت قد استخدمتها البارحة بشكل عادي. حاولت اصلاحها ولكن دون جدوى. الشيء الذي أقلقني هو أنني لم أتذكر إسقاطها أو جر السلك بعنف بالأمس. أظن أنني كنت قد قمت بذلك أياما من قبل، والمفعول لم يظهر إلا في صباح ذاك اليوم. لكنّ هذا لا يهمنا.
بعد صلاة الظهر، كانت الخطة أنني سأذهب إلى سوق الإلكترونيات، المتواجد في وسط المدينة، أشتري سماعات جديدة وبعدها أعود واجربها، ثم سيكون وقت العصر قد حان.
عدت من السوق فوجدت أن طول السلك لم يكن ملائما. ذهبت مجددا إلى السوق وهذه المرة أعطاني التاجر سماعتين، أجربهما، أحتفظ بالتي ناسبتني و أعيد الأخرى…. إحداهما لم تكن مريحة فقمت بإرجاعها.
عند تسليمي اياها لاحظت أن الوقت قد مر وأن موعد الصلاة قد اقترب. لم أرد العودة إلى المنزل ومن ثم الذهاب إلى المسجد. كنت مرهقا، فقررت البقاء مع التاجر ومساعده في المتجر إلى حين العصر فأصليها في مسجد كان بالقرب من هناك. كنت زبونا وفيا وكان يعرفني، لذلك حتما سيسمح لي بالدخول. وبدأنا نتحاور…
التاجر: هل أعجبتك السماعات؟
أنا: نعم، شكرا، أود البقاء معكم إلى حين صلاة العصر. لقد تعبت!
التاجر: أنت مرحب بك في أي وقت. كان بإمكانك إعادتها في يوم آخر!
أنا: ليست هناك أية مشكلة.
ثم ذهب لخدمة بعض الزبائن، وبعد أن انتهى:
أنا: كم من سنة وأنت تعمل مع محمد (أخوه) هنا؟
التاجر: منذ عشر سنوات، كنت في البداية أعمل مع أخي، ولكنِ الآن فالمتجر ملكي!
أنا: هكذا الأمر إذا! ولكن "عشر سنوات"! إنها مدة طويلة…
التاجر: نعم، إنها كذلك.
أنا: عندما كنت طفلا، ما كان حلمك؟ مهلا، مهلا، إلى حد أي مستوى درست؟
التاجر، بابتسامة ساخرة: حلم؟! لا، لا أتذكر أنه كان لدي حلم…
مساعده، وهو يخدم زبونا، متفاجئا كما لو أنني قلت كلاما فاحشا: أقال حلم؟!
فأجبت، متوترا: أقصد… لم تكن تريد أن تصبح اختصاصيا في ميدان ما أو موظفا أو ما شابه؟
التاجر، بنبرة ساخرة: لا وجود للأحلام في هذا البلد السعيد يا فتى.
أنا، متجاهلا لإجابته: نعم ولكن ماذا عنك؟ لم تكن تفكر في أي شيء؟
التاجر: لقد توقفت عن الدراسة في المستوى الثالث إعدادي بعدما رسبت… عن أي حلم تتحدث؟
أنا: أهَّا! الثالث إعدادي! كنت تجيد القراءة والكتابة إذا! أليس كذلك؟ أظن أنهما كافيان لكي تطلع على الكتب وتغني معرفتك. ولكن لماذا لم تحاول القيام بهذا؟
التاجر: همم… لا أدري. ألأنني كنت كسولا؟ … الظروف لم تسمح بذلك.
شرعت في الحديث عن "الحلم" لأنه بعد دخولي للمتجر لاحظت بأن التاجر يبدو تعيسا، كما لو أنه قد يئس من الوضع (العمل بالمتجر)، ومساعده كذلك. ورغم كل هذا ظل يعمل بالمتجر لأكثر من عشر سنوات! أردت محاولة معرفة ما كان وراء ذلك. ظننت أنه كان لديه حلم ولم يحققه، لذا كان جوابي كالتالي:
أنا: الأمر غريب جدا! باستطاعتك التعلم ومع ذلك…
التاجر: ظروفي كانت مختلفة عن ظروفك، والداك يوفران لك كل شيء تحتاجه (كان يعلم أن والداي موظفان في قطاع التعليم) … "أمي أريد هذه!" تحضرها لك، "أبي أريد مبلغا ما من المال!" يعطيك إياه…
أنا: ماذا عن أخيك الأكبر(محمد)؟ لقد درس لمدة أطول، أليس كذلك؟
التاجر: أظن أنه حصل على شهادة البكالوريا، ولكن لم يدرس في الجامعة.
أنا، بعناد: كانت لديه نفس الظروف ومع ذلك واصل حتى البكالوريا! يعني، كان بإمكانك القيام بنفس الشيء رغم الظروف.
التاجر، وعلامات الشك ظاهرة على وجهه: الأمر ليس بهذه البساطة…
لاحظوا كيف، منذ البداية، وهو يلقي اللوم على مختلف الأشياء، معنوية أو مادية، كما لو أنه لم يساهم في وضعه الحالي بأية طريقة معينة. بل ما مسؤول عن وضعه هي الظروف والدولة و... و... .
بصفة عامة، الخطأ لا يكون دائما خطأك. ولكن التاجر لم يعتبر قَطُّ بأن الخطأ قد يكون خطأه، كاحتمال.
كيف أعلم هذا؟ كنت أقوم بنفس التصرف. فبعدما تجاوزت 600 ساعة باللعبة التي تحدث عنها سابقا، أصبحت قويا كفاية للحصول على أعلى نتيجة بمعظم المباريات التي كنت أخوضها غير أن فرقتي كانت تخسر دائما. كنت عادة ما ألقي اللوم على باقي أعضاء الفرقة. لم أعتبر ولو مرة بأن الخطأ قد يكون خطئي، فأنا من يحصل على أحسن أداء. إذا، الخطأ حتما خطئهم.
تحدثت مع صديقي الفرنسي مارتن-Martin بخصوص هذا الأمر وبأن حظي سيء واللعبة تقوم بوضعي مرارا وتكرارا مع لاعبين ضعفاء…، فتفاجأ. مستواه أقل من مستواي في اللعبة ومع ذلك معدل فوزه أعلى. طرحت عليه المشكلة ليخبرني بسر حظه. كان مارتن يعمل بإحدى وكالات "مارلبورو"-Marlboro بباريس. اقترح، كلما أتيحت الفرصة، اللعب معي ليشاهد بعينه ما ظنه غريبا. وافقت لأنني كنت أريد الاستفادة من حظه والفوز، فقد سئمت من الخسارة التي كنت أظنها غير عادلة. لعبنا معا في الأيام الموالية، واحزروا ماذا؟ خسرنا المباريات كلها.
قبل أن أبدأ باعتبار نفسي ملعونا، أخبرني مارتن بأنني لا أراعي الجانب الاستراتيجي بتاتا أثناء اللعب، وقام بتصحيح بعض الأخطاء التي كنت أكررها.
بتقبلي لخطئي، بصعوبة، فتحت مجالا للتحسن!
طلبت منه تعليمي بعض التقنيات والخطط وعملت على تحسين مستواي الاستراتيجي في الستمائة ساعة الموالية.
أما الآن فلنعد لتاجرنا.
استمررت في محاولة إقناعه بأن بإمكانه فعل شيء ما، رغم الظروف. وبعدما كنت على وشك التغلب عليه، نادى مساعده. كان يعلم أن الظروف التي نشأ فيها كانت أصعب وأشد.
التاجر: "سيمو"! تعال إلى هنا. اسمع ما يقوله هذا الصغير…
وبعد أن أخبره عما قلت باختصار.
المساعد، بوجه كئيب: لا أظن أن الامر هكذا يا أخي. لم أستطع فعل شيء لأن أمي كانت مريضة، وأبي كان مريضا، وكان لدي إخوان وأخوات صغار، وكان علي أن أعمل و... و... .
طيب، من الواضح أن سوء تفاهم قد وقع. كانوا يظنون أنني أقصد: «لماذا لم تستمروا في الذهاب إلى المدرسة؟» في حين ما أعنيه: «لماذا لم تستمروا في الدراسة؟» وليس المدرسة. فلسبب ما يظن التاجر ومساعده أن الدراسة والمدرسة مترادفان، وهما ليسا كذلك. المشكلة أنني لم ألاحظ هذا على الفور، كنت متوترا. لذا، استمررت في محاولة إقناعهم أن بإمكانهم الدراسة مهما كان الوضع.
أنا: …يمكنك الدراسة في أي وقت وزمان…
المساعد، والتاجر ينظر إليّ مبتسما بشكل ساخر: وكيف؟!؟!
أنا: هنا! في المتجر.
المساعد: ليس هنالك وقت! فقط العمل، العمل، ثم العمل! لا يمكنني ترك الزبائن!
أنا: الزبائن لا يأتون الواحد تلوى الآخر طوال اليوم. في المدة التي تنتظر فيها الزبون الموالي يمكنك قراءة شيء ما، كتابا مثلا. تقرأ ما استطعت (كلاهما يجيد القراءة والكتابة)، وعند قدوم زبون، تتعامل معه وتتم القراءة في انتظار الذي بعده، وهكذا، ومع مرور الوقت ستجد نفسك ختمت كتابا بأكمله. تخيل لو أنك قمت بهذا منذ البداية، منذ تلك العشر سنوات (حتى المساعد عمل لأكثر من عشر سنوات، غير أنه لا يتوفر على متجره الخاص بعد)! لكنت قرأت مكتبة بأكملها! (كنت أحاول إثارة حماستهم ولكن دون جدوى…)
المساعد، مجددا: الوقت ضيق…
يقول هذا علما أنه منذ بداية حديثي معهم، لم يأتي سوى زبونان أو ثلاثة، وكانت مدة التعامل معهم لا تتجاوز ثلاث دقائق! ومع ذلك يستعمل عذر "الوقت".
هذا العذر شائع جدا لدرجة أنني سئمت من شدة سماعه. سأقوم في المواضيع القادمة، إن شاء الله، بالكتابة عن الوقت، فهمه، وكيفية السيطرة عليه. لكن أولا يجب علينا التغلب على العدو الذي يشكل جوهر موضوعنا هذا! وفي انتظار التعرف عليه لنعد إلى حواري مع التاجر ومساعده.
استمررنا في الحديث، لكن مهما قلت ردوا علي بالظروف… الظروف… الظروف…
يقولون، أنا درست لأن ظروفي سمحت لي بذلك. يتحدثون مثل أولئك الزملاء… "تعلم الفرنسية لأنه كان لديه أساتذة أفضل".
الظروف لا تحدد بشكل جذري، هي فقط تساهم أو تأثر. طيب، إذا كانت الظروف كذا وكذا. ما العمل إذا؟؟؟ نقف مكتوفي الأيدي، وننتظر؟؟؟… تحارب! تصارع! تقاتل! حاول!
والداي، كأغلبية الجيل السابق، لا يعلمون شيئا في مجال التكنولوجيا، ومع ذلك يمكنني أن أتحداك فيه. لم أستعمل عذر "الظروف" عندما كنت طفلا: «لو كان والداي يتقنان المعلوميات لساعداني في تطوير مستواي بشكل أفضل وأسرع، ولكانت لدي أجهزة أقوى، ولكنت قد اجتنبت الكثير من الأخطاء التي قمت بها و… و…». هذا فقط تأثير، مهما كانت الظروف فلن تمنعني من الاطلاع على مجال المعلوميات!
هنالك العديد من الأبناء الذين نشأوا في أسرة غنية (ظروف جيدة في أغلب الحالات)، ومع ذلك مستواهم، المعرفي و الشخصي، ضعيف جدا، كمستوى التاجر ومساعده تماما!
أبي (رحمه الله)، كان ابن بادية. والداه لا يجيدان لا القراءة ولا الكتابة. يعيشون مما يزرعون. كان لديهم الغنم وغيرها من الماشية كذلك. كانت المدرسة بعيدة جدا (بضع كيلومترات). كان يرتدي لباسا واحدا طوال السنة. كان الأساتذة تارة يحضرون وتارة لا…. ومع كل هذا كافح ودرس وأصبح دكتورا. فعن أي ظروف تتحدث يا هذا؟ فعن أي ظروف تتحدث يا "سيمو"؟ فعن أي ظروف تتحدث أيها التاجر؟ لم أصرح بهذا احتراما لهما، لأن كلاهما أكبر مني سنا.
إضافة إلى ما سبق، والدا أبي تُوُفِّيَا خلال الفترة التي كان يدرس فيها في الجامعة، ومع ذلك…
أخبرني أحد أصدقائي بأن أستاذهم، أيضا ابن بادية، كان يبيع السجائر عندما كان طفلا. ورغم ظروفه أصبح دكتورا كذلك.
طيب، قد يبدأ البعض بمحاولة تبرير ظروفهم إذ لم يستعملوها كعذر. لا جدوى في نقاش: "كان الأمر كذلك لأن كذا وكذا"، "لم يفعل كذا لأن كذا"، لكان قام بكذا لأصبح كذا" إلى آخره…. كل ذلك جزء من الماضي. المهم هو الآن وما يمكنك فعله لتحسين نفسك! ما يمكنك القيام به لتصبح مسلما ذكيا (وبقولي "مسلما" أقصد "مسلمة" كذلك). المهم هو الحاضر!
الماضي يعلمنا من أخطائنا فحسب، أما الفعل فيكون في الحاضر.
اقترب موعد العصر ومازلت في جدال عنيد مع التاجر ومساعده، أحاول إقناعهم بأن الظروف ليست عذرا مقنعا ولا كافيا. وعندها…
التاجر: مهلا، مهلا… كم عمرك؟؟؟
أخبرته بسني فظهرت ملامح بهجة قوية على وجهه، كما لو أنه فاز بحرب شاملة، كما لو أنه عثر على علاج جميع الأمراض الفتاكة، كما لو أنه عثر على قطعة نادرة صدفة!
التاجر: أهَّا!!! عندما تبلغ سني عندها تعال وتحدث معي.
وبعدها، كلما أعطيت فكرة أو رأيا منطقيا قابلا للنقاش، كانت أجوبته تتراوح بين "مازلت صغيرا"، "عش المدة التي عشتها وسترى"…
لم تعد هنالك أي ظروف. ألاحظتم كيف يغير أصحاب هذه الفئة عذرهم بسرعة؟ كلما وجدوا عذرا أفضل ومبررا أكثر لوضعيتهم تبنوه.
تبنى التاجر هذا العذر لأنني أصغر منه سنا. يعني، بحسبه، عقلي لم ينضج بعدُ كفايةً لكي أستوعب الكلمات العلمية العميقة الصعبة التي ينطق بها. حتى وإن كنت أرد عليهم بـ:
أنا: يا رجل، ليس المهم "أنا"! ليس المهم سني! المهم هو الفكرة التي اقترحها، هل هي منطقية؟ هل لها حظوظ في أن تكون فعالة؟ هل يمكننا تحسينها؟ هل يمكننا أن ننطلق منها للتوصل إلى فكرة أَفْيَدُ وأكثر فعالية؟
كان الأمر كسكب الماء على الرمل…
حان وقت صلاة العصر. سمعت الأذان فتذكرت بأنني، طوال الحديث، لم أسألهما هل يُصلّيان أم لا. اعتقدت أنهما يقومان بذلك. منذ البداية وهما يوظفان مصطلحات كـ " اللهم يسر"، "سبحان الله"، "حفظك الله"...
إضافة إلى هذا، أخبرني التاجر، خلال نقاشنا، بأنه كان يريد فعل شيء ما، ولكن الله لم ييسر ذلك.
فكانت الصدمة أنهما لا يصليان! علما أن المسجد قريب جدا من المتجر (حوالي دقيقتان من المشي)، والكثير من تجار السوق يقصدونه. أنت لا تصلي حتى، فكيف تريد أن يَيْسُرَ الله لك؟ بل أخبرني المساعد أنه أقلع عن الصلاة تماما، وذلك منذ فترة طويلة!
أحسست بشدة سذاجتي. كان عليّ سُؤالهما من قبل. هذان لا ينتميان لتلك الفئة فقط كما كنت أعتقد، لا يسيطر عليهما العدو الثاني فحسب، بل حتى العدو الأول! ولم يُفعّلا حتى قوتهما الخارقة بعدُ. سأوضح أمر العدو الأول والقوة الخارقة في المواضيع القادمة بإذن الله.
تقوم الجماعة بعد خمس عشرة دقيقة من الأذان. في غضون هذه الدقائق، ظلت أحاول اقناع المساعد بالعودة للصلاة، وانتهى النقاش كالتالي:
أنا، بصوت عال قليلا: ماذا تريد؟ أي شيء؟ يمكنك القول! هيا، قل!
المساعد، مبتسما، بصوت منخفض قليلا: أريد ڭاورية (امرأة غربية جميلة غنية… أو شيئا من القبيل)
أنا، بنفس النبرة، بعد أن قاطعته: حسنا! تذهب للصلاة وعند السجود… "اللهم إني أريد ڭاورية"!
فانفجر كلاهما من الضحك. عندها، سلمت عليهما وتوجهت للصلاة ضاحكا بدوري، لأنني كنت واثقا من لو أنه قام بذلك… لحصل على أم الڭاوريات.
الأمريكي جون
سأروي عن لقاء رائع، مفاجئ وخطير، لأنه سيمكننا من تعميم القانون الذي ساطرحه عليكم. وما أجمل من التعميم؟
من ايجابيات تحدث العديد من اللغات: التواصل مع أشخاص من مجتمعات متنوعة ومختلفة. من العادات والتقاليد والثقافة والتاريخ إلى العقائد والأديان والعقليات. جميعها مختلفة! كل شيء عجيب وغريب بالنسبة لك.
حاليا، لدي أصدقاء ومعارف في معظم بقاع العالم. تعرفت عليهم عن طريق ألعاب الفيديو. تارة نلعب وتارة نتحدث، أو معا في آن واحد. استغربت وتعجبت مرارا وتكرارا ولكنّ الصدمة الكبرى كانت نقاشي مع رجل أمريكي، سنه يفوق الأربعين، يقطن بولاية هاواي الأمريكية.
جون، نشأ وترعرع في أمريكا. كما نقول ببلدي: أمريكيٌّ "حُرٌّ"
عند بداية السنة الثالثة إعدادي، أردت لعب واكتشاف ألعاب فيديو غير تلك التي كنت ألعب. في تلك الفترة، كنت أمتلك حاسوبا محدود القوة، يُلقبونه بـ "الحاسوب البطاطا". لم يكن باستطاعتي اختيار ما أريد. رغم ذلك، وبعد بحث طويل، عثرت على لعبة، تبدو مذهلة، يمكن لحاسوبي تحمُّلها.
كانت تحتوي على كثير من التعليمات والتفاصيل، لدى بدأت بطلب يد المساعدة من اللاعبين الأكثر خبرة وسرعان ما التقيت بجون. كان لديه أكثر من خمسة آلاف ساعة من الخبرة بهذه اللعبة. كان يعرف كل أرجائها!
فوجئت بكونه أمريكي لأنني نادرا ما أصادف الامريكيين، فأقرب "سيرفر" هو "السيرفر" الأوروبي (تقوم معظم الالعاب باختيار أقرب سيرفر منك تلقائيا من أجل تجربة أفضل). ربما سيرفرات هذه اللعبة تعمل بشكل مختلف، الله أعلم.
شرح لي الأولويات، وعندها، أعجبني سلاح معين يتطلب صنعه العديد من المكونات. كان جون يعرف بالضبط من أين يمكن العثور عليها، ولكن الأمر يحتاج وقتا.
بدأنا بالقيام بشتى المهام في مختلف الكواكب، داخل وخارج النظام الشمسي، وفي بعض النجوم. كنا نتحدث خلال السفر من كوكب لآخر وخصوصا بعد نهاية المهام، حيث كنا نصنف المواد الأولية التي حصلنا عليها ونرتبها داخل المركبة. كان يقوم بمعظم العمليات. كنت أساعده قليلا فحسب.
*كانت لدي العديد من الصور مع جون في المركبة وأثناء المهمات، ولكن للأسف نسيت حفظها قبل عمل فورمات للحاسوب. كانت قد مرت سنوات على لقائي به. نسيت أمرها تماما…*
كنا نتحدث، تعلمون… الأسئلة الاعتيادية إلى آخره…، ثم:
أنا: يا رجل ماذا لديك كعمل؟
جون: كنت أعمل بمطعم ولكن حاليا بدون عمل.
نسيت سبب توقفه، ولكنّ هذا لا يهمنا.
أنا: مهلا!؟ ألا تملك دبلوما أو ما شابه؟
جون: بلى، ولكن ليس هناك أي فرصة عمل. حتى وإن وجدتَ فسرعان ما يطردونك، أو لا يقومون بترسيمك عمدا.
أنا، متعجبا: ماذا تقول يا رجل؟ ألا تقطن في أمريكا؟ الأقوى في العالم؟! ظننت أن الظروف ستكون أحسن بكثير!... إضافة إلى امتيازات أخرى!
جون: الامتيازات يعطونها فقط للمهاجرين لتشجيعهم على العمل هنا، وخصوصا لتشجيع أقاربهم على الهجرة كذلك. إنهم بحاجة إليهم. أما إذا كنت أمريكي الأصل فيعاملونك كالكلب أو أسوأ!
فوجئت من كلام جون. ومن ثم شرعنا في النقاش عن الدولة والسياسة والاقتصاد. أخبرني بأنه حتى وإن كان المواطن الأمريكي يتوفر على أجرة عالية فالأثمنة عالية كذلك، بما فيه كثرة الضرائب. أما التأمينات الاجتماعية والتغطية الصحية فهي باهظة!
في كثير من البلدان- بما فيه بلدي -، يتحدث معظم الناس عن الغرب كأنهم أشخاص يَضْرِطُونَ غبارَ حصانِ وحيد القرن السحري: متفتحون ومُنَظَّمون و... و... .
علما أن اليابان من أوائل القوى الاقتصادية عالميا (الثالثة حاليا)، أخبرني صديقي الياباني "كِنْوا"، البالغ من العمر 22 سنة، يوما، بعد ما سألته عن مقالة كنت قد قرأتها بخصوص مجتمعه، بأن اليابانيين صارمون جدا ويبالغون في كثير من الأمور لدرجة أنه قد يتّم اتباعك قضائيا- من طرف ياباني -على أبسط الأشياء. روى لي أيضا عن أحداث كان يظهر من خلالها عدم الرضا عن الدولة والمجتمع. على سبيل المثال قام رجل ياباني أثناء ركوبه القطار بضغط زر الطوارئ. حضر الأمن بسرعة فائقة و ارتبك جميع المسافرين، ليكون السبب وراء ذلك هو عطس الشخص الذي كان يجلس بجانبه. أخبر، بغضب، المسؤولين بأن ذلك الشخص لم يكن يرتدي كمامة، وكان من الممكن أن يتسبب في نشر الداء داخل القطار. في النهاية أخبر مسؤولٌ الركابَ باحترام الإجراءات الاحترازية وتجنب ضغط زر الطوارئ في حوادث مماثلة. وفي مرة أخرى، حدثني عن يابانيٍّ تابع رجلاً قضائيا بعدما قام بالتقليل من احترامه في رد له على تويتر، وفعلا تمت المحاكمة وقام بدفع غرامة. لم يقم بسبه أو شتمه. فقط قلّل من احترامه!
من خلال الطريقة التي كان جون وكنوا يحكيان بها، شعرت كما لو أنني أتخاطب مع شخصين عربيين أحدهما يتحدث الانجليزية والآخر اليابانية. أحسست كما لو أنني أتحاور مع التاجر ومساعده!
هذان كانا أبرز الحالات التي صادفتها فحسب!
يعني مهما كانت الاوضاع والظروف، بغض النظر عن الأصل أو العرق وأينما تواجدوا، يقوم هؤلاء الناس بنفس الشيء.
العدو الثاني
يمَكّنني ما سبق من تعميم القانون الذي ساطرحه عليكم على "الإنسان". حان الوقت.
عدوك الثاني هو:...أنت. نعم أنت.
ما علاقة هذا بالإسلام؟ … تأملوا في الآيات الكريمة التالية:
۞ وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِىٓ ۚ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّىٓ ۚ إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ (سورة يوسف، الآية 53)
فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُوا۟ وَأَطِيعُوا۟ وَأَنفِقُوا۟ خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ (سورة التغابن، الآية 16)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ (سورة النازعات، الآية 40)
طيب، هناك العديد من الآيات التي ذكرت فيها "النفس". من بينها، هذه هي التي أثارت انتباهي وخصوصا الأولى، حيث اعترفت امرأة العزيز بفعلها بعد القيام به كما لو أن أثناء مراودتها لسيدنا يوسف عليه السلام كان "شيء" آخر يتحكم بها. ذلك الشيء، كما ورد في الآيات السابقة، هو "النفس"، غير أنني أفضل مصطلح "الذات" لأنه أبسط وأدق، فللنفس معاني عدة.
كون القرآن موجه للإنسان يؤكد التعميم.
وأسمي تلك الفئة التي نتحدث عنها منذ البداية: "أولئك الذين تتحكم بهم ذاتهم"
في الحقيقة، استخدم مصطلحا أدق ولكنه مجرد لغة عمياء. الأقرب إليه في اللغة العربية هو "الذات". وما أقصد بالذات هو الـ"أنت الشرير"، أي كل ما هو سلبيٌّ بخصوصك، سمّه كيفما تشاء (نفس، ذات، ضمير، عقل، صوت داخليّ، الـ"أنت الشرير"…).
توجد أشكال وأنواع لتحكم الذات بصاحبها. ما رويته سابقا كان فقط بعض الأمثلة التي عشتها. ركزت على من يلومون الوضع العام لأنه موضوع قادم.
إذا كان لا يزال عندك شك تذكر كل تلك المرات التي قلت فيها سأفعل ولم تفعل، سأدرس ولم تدرس، سأنام باكرا ونمت متأخرا، سألعب قليلا ولعبت ساعات. تذكر عندما وعدت بالتحضير قبلُ بفترة ولم تحضر إلا في الدقيقة الأخيرة. تذكر عندما حدث سوء تفاهم أدى إلى شجار أو ما شابه لأنك سمعت فلان قال كذا ولم يقل، فقط خُيِّلَ لك… تذكر!
لم يجبرك أحد ما على اتخاذ أي قرار من القرارات السابقة. الأمر دائما مرتبط تماما بك وبذاتك!
حتى الآن تحاول العثور على ما يثبت أني على خطأ أو أن كل ما ذكرته سابقا خالٍ من الصحة.
لا يهم مدى صحة ما أطرحه بل ما يهم هو مدى فعاليته.
العديد من الافكار (أو الإجراءات أو العمليات أو المعاملات أو غيرها…) كانت تعد صحيحة في جيلٍ سابقٍ أصبحت تعتبر خاطئة في جيل لاحق. كذلك في هذا الجيل اللاحق بعضُ ما كان صحيحا أصبح خاطئا في الجيل الذي بعده. وهكذا بالنسبة لجميع الأجيال (بما فيه جيلنا). النقطة المشتركة لكل تلك الأفكار في أي زمان ومكان هي الفعالية.
حتى لو كانت الفكرة خاطئة كان العمل جار بها لأنها كانت فعالة. لذا فالصحيح والخطأ نسبيين، ما يهمني هو الفعال. سوف تتضح هذه الفكرة أكثر في المواضيع القادمة. لذلك فلنضع هذا جانبا الآن.
طيب، اكتشفنا أن ذاتنا هي عدونا الثاني. ما الحل إذن؟ أنكرهها؟ أنوبخها؟
الحل لا يكمن في كرهك لنفسك أو ذاتك، لأن ذلك يؤذيك فحسب، يدمرك داخليا. بل لا داعي لذلك أصلا، فذاتك مجرد ضحية يتم استغلالها من طرف العدو الأول. سوف أتحدث عنه في مقالة منفصلة خاصة به، إن شاء الله، لأنه أقوى وأخطر وأذكى وخصوصا أكثر دهاء ومكرا، وقد استغرق مني فهمه والتغلب عليه عدة سنوات.
الطريقة الصحيحة، وأقصد هنا الفعالة، للتعامل مع العدو الثاني هي عدم الإنصات إليه فورا وتشكيكه دائما. لا تصدق كل ما يخبرك به وأعد النظر في كل ما يصدر عنه بهدف فهمه (جمع البيانات). بعدها، تستخدم تلك المعلومات التي جمعتها من أجل توظيفها في ترويض ذاتك.
لا يمكنني تقديم تفاصيل أكثر حول الكيفية لأن الأمر يعود إليك، فهي ذاتك. ولكل واحد منا ذاته الخاصة به. أنت وأنت فقط من يستطيع فهم عدوك الثاني والتغلب عليه (ترويضه). الأمر في غاية البساطة لأنه يعتمد كليا عليك، وليس على أحد غيرك. إلا أنه يحتاج وقتا. من بين الطرق والتقنيات التي وظفتها في سبيل فهمي لذاتي: كنت كلما مررت بتجربة أحلل مشاعري وردود أفعالي وأفكر: لماذا قمت بهذا الرد ولم أقم بذاك؟ كيف كان سيكون رد فعلي إذا اختلف الموقف؟ كيف كان سيكون الموقف إذا كنت قد قمت برد فعل آخر؟ لماذا أحس بهذا الشعور؟ أ بسبب كذا أم كذا؟ وألاحظ كيف تتغير (ردود الأفعال والمشاعر) وهل تتكرر.
ليس من قدرتنا التخلص من ذاتنا لأنها جزء منا، لذا يتحتم فهمها وترويضها لكيلا تكون فريسة سهلة بالنسبة للعدو الأول، ولكيلا تتسبب لنا في المشاكل عن طريق دفعنا للقيام بتصرفات غبية سنندم عليها لاحقا. بل سنرى في مقالة قادمة، إن شاء الله، التأثير الخيالي الذي يمكنك إحداثه على غيرك إن تمكنت من ضبط نفسك وترويضها. أما الآن أختم بهذين المثالين لتوضيح ما أخبرتكم به أكثر.
فُلانٌ تنبعث منه رائحة كريهة. كلما كان فلان داخل جماعة أحس كما لو أن الناس يتجنبونه. فلان لم يعجبه ذلك (ردة فعل طبيعية، من سيعجبه الأمر؟). بعد مرور بضعة أيام أخبره شخص ما بأن رائحته قذرة. فلان، مجددا، لم يعجبه الأمر. لم يقبل بذلك لدرجة أنه لم يقم بالتأكد حتى. ظل يلوم الناس بأنهم حمقى ولا يدرون عما يتحدثون وبأنه لا تنبعث منه أي رائحة، وكلما يحاول أحدهم إقناعه أو التحدث معه بخصوص الموضوع يرفض ويبدأ بالتشاجر معه.
طيب، هنا، فلان تتحكم به ذاته. إذا استمر على هذا المنوال فسيظل قذرا طوال حياته. ولكن تخيلوا لو شكك في ذاته وأعاد النظر في الموضوع، سواء أعجبه أم لا، أو تعامل معه من منظور محايد، أو تأكد فحسب (إذا كانت به رائحة ينظف جسمه، وإذا لم تكن فكل شيء على ما يرام، لن يخسر شيئا في كلتا الحالتين). إذا تغلب فلان على ذاته في هذه الحالة سيدرك أن به رائحة وأثناء تطهيره لجسده سيبدأ بالتفكير كيف أصبحت رائحته بشعة لهذه الدرجة؟ وما مصدرها؟ لكيلا يقع في نفس الموقف مجددا. إنه يفتح فرصة للتغيير، التغيير نحو الأفضل. وبعدها يمكنه أن ينتقل لمرحلة أخرى في حياته أو يركز على أشياء أهم من "الرائحة" ومشاجرة الناس.
لا تسألني "كيف لم يشم الرائحة منذ البداية لأنها تفوح منه أصلا؟"، المهم أن تتضح الفكرة أكثر.
أن تتحكم بنا ذاتنا أمر عادي، بل هو الأصل. المشكلة هي أن نسمح لذاتنا في الاستمرار بالتحكم بنا.
هذا لا يعني أن ذاتنا تكون مخطئة دائما. قد تكون مخطئة وقد تكون على صواب! وللتمكن من التمييز بين الحالتين يجب عليك فهم ذاتك. كلما زاد فهمك لذاتك، كلما استطعت التمييز بين الموقفين. بكلمات أخرى، فهم الذات هو معرفة متى تثق بها ومتى لا تثق. والآن هيا بنا إلى المثال الأخير.
وقعت الأحداث التالية في الأسابيع الأولى بعدما بدأت أصلي الصبح مع الجماعة. كنت مازلت مبتدئا.
في سائر الأيام أستيقظ حوالي خمس دقائق قبل أذان صلاة الفجر، ولكن في هذا اليوم استيقظت عشر دقائق بعده. عند إدراكي للأمر قمت بفعل ما أقوم به في سائر الأيام بوتيرة أسرع (الدخول إلى المرحاض، الوضوء…)
قبيل خروجي نادتني والدتي (كانت قد أفاقت للتو) وأخبرتني بأن أصلي فقط في المنزل نظرا لبرودة الطقس. كانت درجة الحرارة حوالي ℃3 (عادة ما أقوم بتتبعها ليلة البارحة لأرى هل الطقس سيكون قارسا أم معتدلا). فرفضت، لأن ليس الطقس ما سيمنعني من الذهاب إلى صلاة الصبح. أجبتها بأن المعطف موجود من أجل هذه الحالات، فارتديته وخرجت.
لم تكن تنصحني بالصلاة في البيت لسبب الطقس فقط، بل كانت في الحقيقة تخاف على سلامتي. كان الصبح لا يزال مبكرا جدا عندها: حوالي الرابعة والنصف بعد منتصف الليل.
لكنّ الأمر ليس مسألة برد أو أمن فحسب، إنما هو مسألة مقاومة وصراع دائمين للعدوين وخصوصا المحافظة على قوتي الخارقة.
عند وصولي للدرب الذي اجتازه كطريق مختصر للذهاب إلى المسجد، لمحت رجلا في آخره قادم اتجاهي، يتمايل ببطء ويحمل قارورة بيده…
ذاتي: يا صاح إنه يتمايل!!! ما ذاك بيده؟؟؟
أنا: قارورة. لكن لا أستطيع تمييز نوعها.
ذاتي: ما الذي يفعله شخص يمشي عكس اتجاه المسجد في مثل هذا الوقت؟!
استمررت بالمشي إلا أنني أخرجت يَدَيَّ قليلا من جيبي وهرولت بشكل غير ظاهر. (فكرت بأنه قد تكون ذاتي على حق، فالموقف يبدو خطيرا وهذه أول مرة أقع فيه، لذا أخذت احترازي، ولكن لم أستسلم لقولها بعد)
ذاتي: ماذا تفعل يا هذا؟!!
أنا: ...
ذاتي: استدر يمينا! لنسلك طريقا مغايرا!
أنا: همم…لا أدري. سيستغرق الوصول مدة أطول. نحن أصلا متأخرين. سنفوّت الجماعة. الجماعة أولا!
تجاوزت الطريق التي تحدثت عنها ذاتي. لا مفر الآن. واصلت السير والرجل يقترب أكثر فأكثر…
أوشكت اللحظة الحاسمة. قامت ذاتي برفع تركيزي وقمت بتصليب يَدَيّ.
ذاتي: ماذا تفعل؟؟ أستقوم بمواجهته!! أأنت جاد؟؟ لقد استيقظنا للتو!! لا يمكنك فعل ذلك…اجري!
أنا، بتوتر: لا! سيكون الأمر مريبا فحسب. قد يقوم بملاحقتي. لا أود الهرب، دعني أركز!
أخاطب ذاتي بضمير مذكر لأنها جزء مني (كما ذكرنا سابقا: مثل "أنا شرير"). وأنا ذكر.
أثناء الصراع الداخلي أدخلتني ذاتي في حالة ذعر وارتفعت دقات قلبي. اللحظة الحاسمة بعد ثانية واحدة!
ذاتي: لماذا لا تنصت لأمك يا رجل؟ أخبرك دائما بالإنصات إلى أمك! كان عليك الإنصات وعدم الخرو…
في لحظت الالتقاء، وخلال مرورنا بجانب بعض، كنت مستعدا للقتال! وعندها…
الرجل: السلام عليكم.
تأخرت في الرد ببضع أجزاء من الثانية من شدة دهشتي.
أنا، بصوت ضئيل: السلام عليكم.
أكملت طريقي دون أن أستدير، وبعد ثوان من الصمت…
ذاتي: يا لك من جبان. أخبرتك بأنه لا داعي للقلق…
أنا، مبتسما: نعم، نعم…
ذاتي: لماذا تبتسم؟ لقد أخبرتك!
أنا: …
ثم أتممت المسار، وأدركت الجماعة.
استمرت حالة الذعر إلى أن تجاوزت الرجل (الخطر)، لأنه مثلما يخبرك جسدك بالخطر (جرح…) عن طريق الألم، تقوم ذاتك بذلك عن طريق الخوف والذعر والتوتر وغيرها…. غير أنها تبالغ في الأمر أحيانا.
خاتمة
نكتفي بهذا القدر. آمل أن يكون ايصال الفكرة قد تم بنجاح. افهم ذاتك ودربها لأنها الوحيدة التي ستساعدك في مواجهة العدو الأول! لا تيأس إذا لم تستطع فعل ذلك في وقت قصير، فلقد استغرق مني مدة طويلة! السر يكمن في عدم التوقف مهما حدث والاستمرار في المحاولة.
إن لم يكن المثالين السابقين كافيين للتوضيح فلا تقلق، سيزداد فهمك مع مر المواضيع، لأن الروعة الحقيقية لا تتجلى في المواضيع بحد ذاتها، بل في ترابطها الوثيق! معظم المواضيع التي سأطرحها تؤول إلى نقطة واحدة ألقبها بـ "الخطة النهائية".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أراكم في الموضوع المقبل إن شاء الله.